الجنة بالنسبة لي ليست مجرد حقيقة قادمة فقط ..
المواعيد التي تم تأجيلها رغما عني ..
والأماكن التي لا تستطيع الأرض منحي إياها ..
الحب الذي بخلت به الدنيا ..
والفرح الذي لا تتسع له الأرض ..
الوجوه التي أشتاقها .. والوجوه التي حرمت منها ..
ايات الحدود وبدايات إشراق الوعود ..
استقبال الفرح ووداع المعانات والحرمان ..
الجنة زمن الحصول على الحريات .. فلا قمع ولا سياج ولا سجون ، ولا
خوف من القادم وهول ..
الجنة موت المحرمات .. وموت الممنوعات ..
الجنة موت السلطات ..
الجنة موت الملل .. موت التعب ..
موت اليأس ..
الجنة موت الموت ..
~ّّ((الجنة أتمنى))ّّ~
سأنشر شراعا أبيض نقش عليه صلى الله عليه وسلم كلمات تعشقها
الرياح : " إذا سأل أحدكم فليكثر فإنه يسأل ربه "
سأمارس الرحيل حيث لا ايات للمتعة، ولا سقف للإبداع ولا
للجمال .
قال مبدع الجنان سبحانه.. قال الجميل الذي يحب الجمال ، ويحثنا على
الجمال : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا
خطر على قلب بشر "
عندما أقرأ هذه الكلمات .. تأخذ نياط قلبي وأنا أرى قوافل الصالحين
تمر فلا تأخذني معها .. أرى مطاياهم تتهادى أمامي وأنا مكبل بخطاياي ،
وأرى اليأس جاء ليجهز على ما تبقى .
لكن شمس محمد عليه السلام تشرق من جديد بكلمات كالمطر ..
كلمات زادت حبي لأنس بن مالك .. ذلك الغلام الذي نعم بخدمة النبي
صلى الله عليه وسلم وحنانه ..
كلمات أشرقت على أنس عندما رأى رجلا غريبا أخرجه قلبه من بيته ..
أخرجه قلبه المفعم بحبٍ راح يعلنه على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما
وقف أمامه سأله سؤال المشتاقين " فقال : متى الساعة ؟
قال عليه السلام : وماذا أعددت لها ؟
قال: لا شيء .. إلا أني أحب الله ورسوله .
فقال عليه السلام : أنت مع من أحببت .
قال أنس : فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أنت
مع من أحببت )
~ّّ((الجنة أتمنى))ّّ~
قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ، وأرجو
أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم "
وأنا أقول : رب إني أحبك وأحب نبيك وأحب أبا بكر وعمر وأنس ،
وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم ..
رب حررني بحبك من تلك القيود .. رب اشملني بقولك : أعددت لعبادي
الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
إلهي .. عندما أقرأ هذه الكلمات تضيع الموانيء وتختفي السواحل .. وأظل
في محيطات النعيم وسكره دون وصول أو إفاقة ..
رب إن جنتك لن تضيق بي .. ورحمتك وسعت كل شيء ، وأنا ضعيف
فارحمني .. رب اجعلني أفقر الناس إليك وأغناهم بك .
~ّّ((الجنة أتمنى))ّّ~
دعونا نتمنى ..
دعونا نكثر ونكثر .. فالله أكثر ..
دعونا نخرج عبر هذه النوافذ نحو عوالم ساحرة ومذهلة .. لم يرها بشر
ولم يسمع ، ولم تخطر على باله يوما .
لن نصل إلى تلك الآفاق والمستويات ، لكن حسبنا أننا قمنا بالتحليق
نحوها .
لقد حلَّقت حتى ظننت أنني في الجنة .. وسافرت حتى غدت مدائن
الأرض مزرعة شاحبة بين مدائني .. وعشت في عوالم أرقى حتى أصبح
أغنى الخلق بالنسبة لي مدقع الفقر .. وملكت فيها حتى رأيت أكثر الناس
سطوة وملكا كالمساكين ..
بعد فراغي من كتابة هذه الأماني شعرت بأنني خلقت من جديد .. لم تعد
الدنيا كما كانت ولم يعد في حياتي مكان للملل ..
بدأت أرى الدنيا رغم تفاهتها أجمل مما هي عليه .. شعرت بضرورة
تحويلها إلى جنة مؤقتة ..
تحولت أشياء الدنيا التي يتقاتل ويتعادى من أجلها البشر إلى أشياء
سخيفة .. رغم أنني لست من العباد ولا من الزهاد .. رغم أن التقصير
يأكلني من كل أطرافي ..
مكثت ولا زلت .. أجوب عالما جديدا .. اسمه الجنة ..
لقد زاد شوقي إليها .. زاد عطشي إلى رحمة الله .. وزادتني طاقة للسير في
الدنيا.. أصبحت كالعاشق الذي هون مطالب معشوقته .. وترخص من
أجلها الأشياء من أجلها المعانات .. حتى أنه يتلذذ
أدركت أحد أسباب تضحية الأنبياء والصديقين والشهداء والمؤمنين .
الجنة التي ملأ ذكرها القرآن والسنة .. وأحرق الشوق إليها قلوب
عشاقها .. لم تعد في مخيلتي حنينا إلى تلك الأزهار والأوراق فقط .. ولا إلى
تلك المباني الساحرة والقصور العائمة فقط ..
لقد أخذني الحنين إلى وجوه تحرقت شوقا إليها .. وجوه كتبتني قصائدها ،
وتعطرت بعبق ذكراها محطات حياتي المتواضعة ..
كم أنا بشوق إليهم ..
كم أتوق إلى طبع قبلة على جبين محمد صلى الله عليه وسلم ..
كم أنا بشوق إلى تناول فنجان قهوة مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ..
كم أتوق إلى إقامة احتفال على شرف المهاجرين والأنصار ..
كم أنا بشوق إلى من انتزعهم الموت مني .. أو حالت الدنيا بيني
وبينهم ..
كم أنا بشوق إلى إبداع أحلم بتحقيقه، لكن الأرض لا تطيقه .. كم أنا
بشوق إلى عالم دون حروب ومآس وحسد وأحقاد ..
عالم بلا ممنوعات أو قمع أو سلطات ..
كم أنا بشوق إلى الجنة ..
~ّّ((الجنة أتمنى))ّّ~
في الجنــه نشعر ~
بسلام في أرواحنا .. فلن تفارق أجسادنا الساحرة ، ستظل ترفرف في
سعادة بين جوانحنا ، فلا قلق ولا كآبة ولا إحباط ولا ملل ، ولا يأس ولا
انكسار ولا حزن ، ولا قتل فقد ذبح الموت .
بسلام في قصورنا وبيوتنا وأكواخنا ومزارعنا وشاليهاتنا ومنتجعاتنا ، فلا
لصوص ولا عصابات ولا مقتحمين ولا متجسسين على خصوصياتنا ،
ولا جيران مؤذين ، ولن نبحث عن بيت في حي آمن فالأحياء مزينة
بالحب والأمن والسلام ..
بسلام في أموالنا فلن نخشى عليها من الاختلاس أو السلب والنهب
والتلاعب والسطو والاغتصاب والمصادرة ، ولن يمن علينا أحد بعد
اليوم بإعطائنا بعض حقوقنا ، ولن نقف طوابير للحصول عليها ، ولن
نرى في الجنة قضاة أو أقسام شرطة تنصفنا ، فقد غمرنا الرحمن برحمته
وحبه ..
لا خوف على أراضينا ومزارعنا واستراحاتنا ومنتجعاتنا من سطو
لصوص الأراضي والعقارات وشباكهم وتزويرهم وارتفاع أسعارهم ..
بسلام في مستقبلنا ، فالقادم أجمل من الحاضر ، ولن نخشى بعد اليوم
جفافا أو قحطًا أو زلازل أو براكين أو فياضانات أو حروبا تأكل
الأخضر واليابس .. ولن نرى بعد اليوم عدوا لله ولمعتقداتنا ، فهم هناك
في قعر منتن يلعن بعضهم بعضًا ..
في الجنه نشعر ~
بسلام في خصوصياتنا فلن يتجسس علينا أو يراقبنا أحد ، أو يحسب
علينا خطواتنا وأنفاسنا وكلماتنا والأماكن التي نرتادها ، ولن نتعرض
لمساءلة على يد محقق أو نقطة تفتيش أو نقطة عبور ..
بسلام في تنقلاتنا .. سنجوب الجنة دون أن نحتاج إلى نقاط جوازات
وتفتيش ، ولن نضطر إلى استخراج تأشيرات ، مع أننا لن ننتقل بين قرى
وجزر ومدن فقط ، بل بين عوالم وعوالم .. ولن يمنعنا أحد من السفر أو
العبور ، ولن يحدد مسؤول بعد اليوم مدة إقامتنا ، أو فرض الإقامة الجبرية
علينا ..
بسلام في طعامنا وشرابنا فلن نعاني من الجوع والعطش أو الغصص أو
المرارة والتعفن والتسمم ، وليس في قوائم الطعام والشراب شيئا محرما أو
ممنوعا ، أو مقززا أو محترقا أو متعفنا ، أو مسموحا به لأحد دون أحد ، أو
لطبقة دون طبقة ، ليس في الجنة طعام لا نشتهيه أو لا نستسيغه أو لا
نحبه ، أو يضر بصحتنا .
بسلام في أجوائنا فلن نعرف الحر المزعج أو البرد القارس ، أو الغبار
المؤذي ، أو الرطوبة الخانقة أو الريح أو العواصف والأعاصير المدمرة ..
بسلام في تفكيرنا وعقولنا ، فليس بيننا متخلف أو أبله أو مجنون ، ولن
يقلقنا بعد اليوم عدم التوصل إلى معلومة ، كل ما علينا هو البحث ..
والوصول ، ثم البحث ومواصلة الإبداع والتمتع بالوصول ..
لن يقلقنا البحث عن لقمة العيش ومحاولة تأمين المستقبل ، ولن يذلنا أحد
بصدقة أو معروف أو مكرمة أو منحة أو هبة ..
في الجنه ~
الزهور التي أعرف بعض ألوانها وأجهل معظمه .. أما أنواعها وأشكالها
فأكثر من ألوانها أو ألوانها أكثر .. هكذا تبدو لي .. كأن الأرض المحيطة
بي سجادة لا أطراف لها .. وفتنة لا نهايات لها .. بأي شيء أبدأ التأمل ..
بالسماء الجديدة المدهشة بأنوارها الساحرة التي لا تجهر العين ، بل تسافر ..
أم بالأشجار والشجيرات التي لم تعد خضراء فقط ، إنها بكل الألوان ..
وألوان الجنة كالأرقام بلا نهاية ..